سورة سبأ - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


قوله تعالى: {ولِسليمان الرِّيح} قرأ الأكثرون بنصب الرِّيح على معنى: وسخَّرنا لسليمان الرِّيحَ. وروى أبو بكر، والمفضل عن عاصم: {الرِّيحُ} رفعاً، أي: له تسخيرُ الريح. وقرأ أبو جعفر: {الرِّياح} على الجمع.
{غُدُوُّها شَهْرٌ} قال قتادة: تغدو مسيرةَ شهر إِلى نصف النهار، وتروح مسيرةَ شهر إِلى آخر النهار، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين. قال الحسن: لمَّا شَغَلت نبيَّ الله سليمانَ الخيلُ عن الصلاة فعقرها، أبدله الله خيراً منها وأسرع وهي الريح، فكان يغدو من دمشق فيَقيل بإِصْطَخْر وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إِصطخر فيبيت بكابُل، وبينهما مسيرة شهر للمسرع.
قوله تعالى: {وأَسَلْنَا له عَيْنَ القِطْرِ} قال الزجاج: القِطْر: النُّحاس، وهو الصُّفْر، أُذيب مذ ذاك وكان قبل سليمان لا يذوب.
قال المفسرون: أجرى الله لسليمان عين الصُّفْر حتى صنع منها ما أراد من غير نار، كما أُلين لداود الحديدُ بغير نار، فبقيت تجري ثلاثة أيام ولياليهنّ كجري الماء؛ وإِنما يعمل الناس اليوم مما أُعطي سليمان.
قوله تعالى: {ومن الجن} المعنى: وسخَّرنا له من الجن {من يعمل بين يديه باذن ربِّه} أي: بأمره؛ سخَّرهم الله له، وأمرهم بطاعته؛ والكلام يدلُّ على أنَ منهم من لم يسخَّر له {ومَنْ يَزِغْ منهم} أي: يَعْدِل {عن أمرنا} له بطاعة سليمان {نُذِقْه من عذاب السعير}؛ وهل هذا في الدنيا، أم في الآخرة؟ فيه قولان:
أحدهما: في الآخرة، قاله الضحاك.
والثاني: في الدنيا، قاله مقاتل.
وقيل: إِنه كان مع سليمان مَلَك بيده سوط من نار، فمن زاغ من الجن ضربه الملك بذلك السوط.
{يعملون له ما يشاء من محاريب} وفيها ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها المساجد، قاله مجاهد، وابن قتيبة.
والثاني: القصور، قاله عطية.
والثالث: المساجد والقصور، قاله قتادة. وأما التماثيل، فهي الصُّوَر؛ قال الحسن: ولم تكن يومئذ محرَّمة؛ ثم فيها قولان:
أحدهما: أنها كانت كالطَّواويس والعِقْبان والنُّسور على كرسيِّه ودرجات سريره لكي يَهابَها من أراد الدُّنُوَّ منه، قاله الضحاك.
والثاني: أنها كانت صُوَرُ النبييِّن والملائكة لكي يراهم الناس مصوَّرين، فيعبُدوا مثل عبادتهم ويتشبَّهوا بهم، قاله ابن السائب.
وفي ما كانوا يعملونها منه قولان:
أحدهما: من النُّحاس، قاله مجاهد.
والثاني: من الرُّخام والشَّبَه، قاله قتادة.
قوله تعالى: {وجِفَانٍ كالجَوَابي} الجِفَان: جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة؛ والجَوَابي؛ جمع جابِيَة، وهي الحوض الكبير يُجبَى فيه الماء، أي: يُجمع. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {كالجَوَابي} بياء، إِلا أن ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف، وأبو عمرو يثبتها في الوصل دون الوقف. قال الزجاج: وأكثر القراء على الوقف بغير ياءٍ، وكان الأصل الوقف بالياء، إِلاَّ أن الكسرة تنوب عنها.
قال المفسرون: كانوا يصنعون له القِصَاع كحياض الإِبل، يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها.
قوله تعالى: {وقدورٍ راسياتٍ} أي: ثوابت؛ يقال: رسا يرسو: إِذا ثبت.
وفي علَّة ثبوتها في مكانها قولان:
أحدهما: أن أثافيها منها، قاله ابن عباس.
والثاني: أنها لا تُنزل لِعِظَمها، قاله ابن قتيبة.
قال المفسرون: وكانت القُدور كالجبال لا تحرَّك من أماكنها، يأكل من القِدْر ألف رجل.
قوله تعالى: {اعْمَلوا آلَ داوُدَ شكْراً} المعنى: وقلنا: اعملوا بطاعة الله شكراً له على ما آتاكم.
قوله تعالى: {فلمَّا قضينا عليه الموتَ} يعني على سليمان. قال المفسرون: كانت الإِنس تقول: إِن الجن تعلم الغيب الذي يكون في غد، فوقف سليمان في محرابه يصلِّي متوكِّئاً على عصاه، فمات، فمكث كذلك حولاً والجن تعمل تلك الأعمال الشّاقّة ولا تعلم بموته حتى أكلتِ الأَرَضُ عصا سليمان، فخرَّ فعلموا بموته، وعَلِم الإِنس أن الجن لا تعلم الغيب.
وقيل: إِن سليمان سأل الله تعالى أن يعمِّي على الجن موته، فأخفاه الله عنهم حولاً.
وفي سبب سؤاله قولان:
أحدهما: لأن الجن كانوا يقولون للانس إِنَّنا نَعْلَمُ الغيب، فأراد تكذيبهم.
والثاني: لأنه كان قد بقي من عِمارة بيت المقدس بقيَّة.
فاما {دابَّة الأرض} فهي: الأَرَضَة. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعاصم الجحدري: {دابَّة الأرض} بفتح الراء.
والمِنْسأة: العصا. قال الزجاج: وإِنما سمِّيت مِنْسأة، لأنه يُنْسَأُ بها، أي: يُطْرَدُ ويُزْجَر. قال الفراء: أهل الحجاز لا يهمزون المِنْسأة، وتميم وفصحاء قيس يهمزونها.
قوله تعالى: {فلَّما خَرَّ} أي: سقط {تبينَّت الجنُّ} أي: ظهرت، وانكشف للناس أنهم لا يعلمون الغيب، ولو علموا {ما لَبِثوا في العذاب المُهين} أي: ما عملوا مسخَّرين وهو ميت وهم يظنُّونه حيّاً. وقيل: تبيَّنت الجن، أي: عَلِمت لأنَّها كانت تَتَوَهَّم باستراقها السمع أنها تعلم الغيب، فعلمت حينئذ خطأَها في ظنِّها. وروى رويس عن يعقوب {تُبُيِّنَتْ} برفع التاء والباء وكسر الياء.


قوله تعالى: {لقد كان لِسَبَأٍ في مساكنهم آيةٌ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: {في مَسَاكِنِهم}. وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم {مَسْكَنِهم} بفتح الكاف من غير ألف. وقرأ الكسائي، وخلف: {مَسْكِنِهم} بكسر الكاف، وهي لغة.
قال المفسرون: المراد بسبأٍ هاهنا: القبيلة التي هم من أولاد سبأ بن يَشْجُب ابن يَعْرُب بن قحطان؛ وقد ذكرنا في سورة [النمل: 22] الخلاف في هذا، وأن قوماً يقولون: هو اسم بلد، وليس باسم رجل. وذكر الزجاج في هذا المكان أنَّ مَنْ قرأ: {لِسَبأَ} بالفتح وترك الصَّرْف، جعله اسماً للقبيلة، ومن صرف وكسر ونوَّن، جعله اسماً للحيِّ واسماً لرجل؛ وكلٌّ جائزٌ حسن. و{آيةٌ} رفعٌ، اسم {كان}، و{جَنَّتان} رفع على نوعين، أحدهما: أنه بدل من {آية}.
والثاني: على إِضمار، كأنَّه لمَّا قيل: {آيةٌ}، قيل: الآية جنَتَّان.
الإِشارة إِلى قصتهم.
ذكر العلماء بالتفسير والسِّيَر أن بلقيس لمَّا ملكت قومَها جعل قومُها يقتتِلون على ماء واديهم، فجعلت تنهاهم فلا يُطيعونها، فتركت مُلْكها وانطلقت إِلى قصرها فنزلتْه، فلمَّا كَثُر الشَّرُّ بينهم وندموا، أتَوها فأرادوها على أن ترجع إِلى مُلكها، فأبت، فقالوا: لَتَرجِعِنَّ أو لَنَقْتُلَنَّكِ، فقالت: إِنكم لا تُطيعونني وليست لكم عقول، فقالوا: فانَّا نُطيعك، فجاءت إِلى واديهم- وكانوا إِذا مُطِروا أتاه السَّيل من مسيرة أيَّام- فأمرتْ به، فسُدَّ ما بين الجبلين بمُسَنَّاة، وحبستْ الماء من وراء السد، وجعلتْ له أبواباً بعضها فوق بعض، وبنتْ من دونه برِكة وجعلت فيها اثني عشر مَخْرجاً على عِدَّة أنهارهم، فكان الماء يخرج بينهم بالسويَّة، إِلى أن كان من شأنها مع سليمان ما سبق ذِكره [النمل: 29 44]، وبقُوا بعدها على حالهم. وقيل: إِنما بنَواْ ذلك البنيان لِئلاَّ يغشى السيلُ أموالهم فيُهلكها، فكانوا يفتحون من أبواب السَّدِّ ما يريدون، فيأخذون من الماء ما يحتاجون إِليه، وكانت لهم جنَّتان عن يمين واديهم وعن شماله، فأخصبت أرضُهم، وكَثُرت فواكههم، وإِن كانت المرأةُ لتمُرُّ بين الجنَّتين والمِكْتَل على رأسها، فترجع وقد امتلأ من الثمر ولا تَمسُّ بيدها شيئاً منه، ولم يكن يُرى في بلدهم حيَّة ولا عقرب ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث، ويمُرُّ الغريب ببلدتهم وفي ثيابه القَمْل، فيموت القمل لطيب هوائها. وقيل لهم: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ ربِّكم واشكُروا له بلدةٌ طيِّبةٌ} أي: هذه بلدة طيِّبة، أو بلدتُكم بلدةٌ طيِّبة، ولم تكن سبخة ولا فيها ما يؤذي {وربٌّ غفورٌ} أي: واللّهُ ربٌّ غفور، وكانت ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إِليهم ثلاثة عشر نبيّاً، فكذَّبوا الرُّسل، ولم يُقِرُّوا بنِعم الله، فذلك قوله: {فأَعْرضْوا} أي: عن الحقّ، وكذَّبوا أنبياءهم {فأرسَلْنا عليهم سَيْلَ العَرِمِ} وفيه أربعة أقوال.
أحدها: أن العَرِم: الشديد، رواه عليّ بن أبي طالب عن ابن عباس. وقال ابن الأعرابي: العَرِم: السَّيل الذي لا يُطاق.
والثاني: أنه اسم الوادي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، ومقاتل.
والثالث: أنه المُسَنَّاة، قاله مجاهد، وأبو ميسرة، والفراء، وابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: العَرِم: جمع عَرِمَة، وهي: السِّكْر والمُسَنَّاة.
والرابع: أن العَرِم: الجُرَذ الذي نقب عليهم السِّكْر، حكاه الزجاج.
وفي صفة إِرسال هذا السيل عليهم قولان:
أحدهما: أن الله تعالى بَعَثَ على سِكْرهم دابَّةً من الأرض فنقبت فيه نقباً، فسال ذلك الماء إِلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به، رواه العوفي عن ابن عباس. وقال قتادة والضحاك في آخرين: بعث اللّهُ عليهم جُرَذاً يسمَّى الخُلْد- والخُلْد: الفأر الأعمى- فنقبه من أسفله، فأغرق اللّهُ به جنَّاتهم، وخرَّب به أرضهم.
والثاني: أنه أرسل عليهم ماءً أحمر، أرسله في السدِّ فنسفه وهدمه وحفر الوادي، ولم يكن الماء أحمر من السد، وإِنما كان سيلاً أُرسل عليهم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: {وبدَّلْناهم بجنَّتيهم} يعني اللَّتين تُطعمان الفواكه {جنَّتين ذواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {أُكُلٍ} بالتنوين. وقرأ أبو عمرو: {أُكُلِ} بالإِضافة. وخفَّف الكاف ابن كثير ونافع، وثقَّلها الباقون. أمَّا الأُكُل، فهو الثمر.
وفي المراد بالخَمْط ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه الأراك، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور؛ فعلى هذا، أُكُلُه: ثمره؛ ويسمَّى ثمر الأراك: البَرِير.
والثاني: أنه كل شجرة ذات شوك، قاله أبو عبيدة.
والثالث: أنه كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله، قاله المبرِّد والزجّاج. فعلى هذا القول، الخَمْط: اسم للمأكول، فيَحسُن على هذا قراءة من نوَّن الأُكُل؛ وعلى ما قبله، هو اسم شجرة، والأُكُل ثمرها، فيحسُن قراءة من أضاف.
فأمَّا الأَثْل، ففيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه الطَّرْفاء، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه السَّمُر، حكاه ابن جرير.
والثالث: أنه شجر يشبه الطَّرْفاء إِلاَّ أنَّه أعظم منه.
قوله تعالى: {وشيءٍ من سِدْرٍ قليلٍ} فيه تقديم، وتقديره: وشيء قليل من سِدْر، وهو شجر النّبق. والمعنى أنه كان الخَمْط والأَثْل في جنَّتيهم أكثر من السِّدْر. قال قتادة: بينا شجرُهم من خير الشجر، إِذ صيَّره اللّهُ من شرِّ الشجر.
قوله تعالى: {ذلكَ جَزَيناهم} أي: ذلك التبديل جزيناهم {بما كفروا وهل نُجازي إِلا الكَفُورَ}.
فان قيل: قد يُجازى المؤمنُ والكافر، فما معنى هذا التخصيص؟ فعنه جوابان.
أحدهما: أن المؤمن يُجزى ولا يُجازى، فيقال في أفصح اللغة: جزى اللّهُ المؤمن، ولا يقال: جازاه، لأن جازاه بمعنى كافأه، فالكافر يُجازى بسيِّئتِهِ مثلها، مكافأة له، والمؤمن يُزاد في الثواب ويُتفضَّل عليه، هذا قول الفراء.
والثاني: أن الكافر ليست له حسنة تكفِّر ذنوبه، فهو يُجازى بجميع الذُّنوب، والمؤمن قد أَحبطت حسناتُه سيِّئاته، هذا قول الزجاج.
وقال طاووس: الكافر يُجازى ولا يُغْفَر له، والمؤمن لا يُناقَش الحسابَ.
قوله تعالى: {وجَعَلْنا بينهم} هذا معطوف على قوله تعالى: {لقد كان لسَبَأٍ}؛ والمعنى: كان من قَصَصهم أنّا جَعَلْنا بينهم {وبين القرى التي باركنا فيها} وهي: قرى الشام؛ وقد سبق بيان معنى البَرَكَة فيها [الانبياء: 71]، هذا قول الجمهور. وحكى ابن السائب أن الله تعالى لمَّا أهلك جنَّتيهم قالوا للرسل: قد عرفنا نعمة الله علينا، فلئن ردَّ إِلينا ما كنَّا عليه لنَعْبُدَنَّه عبادةً شديدة، فردَّ عليهم النِّعمة، وجعل لهم قُرىً ظاهرة، فعادوا إِلى الفساد وقالوا: باعد بين أسفارنا، فَمُزِّقوا.
قوله تعالى: {قُرىً ظاهرةً} أي: متواصلة ينظُر بعضها إِلى بعض {وقدَّرْنا فيها السَّير} فيه قولان:
أحدهما: أنهم كانوا يَغْدون فيَقِيلون في قرية، ويَرُوحون فيَبِيتون في قرية، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني: أنه جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: {سِيروا فيها} والمعنى: وقلنا لهم: سيروا فيها {لياليَ وأيَّاماً} أي: ليلاً ونهاراً {آمنين} من مخاوف السفر من جوع أو عطش أو سَبُع أو تعب، وكانوا يسيرون أربعة أشهر في أمان، فبَطِروا النِّعمة وملّوها كما ملّ بنو إِسرائيل المَنَّ والسَّلوى {فقالوا ربَّنا بَعِّدْ بين أسفارنا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {بَعِّد} بتشديد العين وكسرها. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة: {باعِدْ} بألف وكسر العين. وعن ابن عباس كالقراءتين. قال ابن عباس: إِنهم قالوا: لو كانت جنَّاتنا أبعد ممَّا هي، كان أجْدَرَ أن يُشتهى جَنَاها. قال أبو سليمان الدمشقي: لمَّا ذكَّرتْهم الرُّسلُ نِعَم الله، أنكروا أن يكون ماهم فيه نعمة، وسألوا الله أن يُباعِد بين أسفارهم. وقرأ يعقوب: {ربُّنا} برفع الباء {باعَدَ} بفتح العين والدال، جعله فعلاً ماضياً على طريق الإِخبار للناس بما أنزله الله عز وجل بهم. وقرأ عليّ بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رجاء، وابن السميفع، وابن أبي عبلة: {بَعُدَ} برفع العين وتخفيفها وفتح الدال من غير ألف، على طريق الشِّكاية إِلى الله عز وجل. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني: {بُوعِدَ} برفع الباء وبواو ساكنة مع كسر العين.
قوله تعالى: {وظَلَمُوا أنفُسَهم} فيه قولان:
أحدهما: بالكفر وتكذيب الرُّسل.
والثاني: بقولهم {بَعِّدْ بين أسفارنا}.
{فجعلْناهم أحاديث} لمن بعدهم يتحدَّثون بما فُعل بهم {ومزَّقْناهم كلَّ مُمَزَّق} أي: فرَّقْناهم في كل وجه من البلاد كلَّ التفريق، لأنَّ الله لمَّا غرَّق مكانهم وأذهب جنَّتَيْهم تبدَّدوا في البلاد، فصارت العرب تتمثل في الفُرقة بسبأٍ {إِنَّ في ذلك} أي: فيما فُعِل بهم {لآياتٍ} أي: لَعِبَراً {لكلِّ صبَّار} عن معاصي الله {شَكورٍ} لِنِعَمه.
قوله تعالى: {ولقد صدَّق عليهم إِبليسُ ظنَّه} {عليهم} بمعنى فيهم، وصِدْقه في ظنه أنَّه ظنَّ بهم أنَّهم يتَّبعونه إِذ أغواهم، فوجدهم كذلك.
وإِنما قال: {ولأُضِلَّنَّهم ولأُمَنِّيَنَّهم} [النساء: 119] بالظنِّ، لا بالعِلْم، فمن قرأ: {صَدَّق} بتشديد الدال، فالمعنى: حقَّق ما ظنَّه فيهم بما فعل بهم؛ ومن قرأ بالتخفيف، فالمعنى: صَدَق عليهم في ظنِّه بهم.
وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: أنهم أهل سبأ.
والثاني: سائر المطيعين لإِبليس.
قوله تعالى: {وما كان له عليهم من سُلطان} قد شرحناه في قوله: {ليس لكَ عليهم سُلطان} [الحجر: 42]. قال الحسن: واللّهِ ما ضربهم بعصاً ولا قهرهم على شيء، إِلاَّ أنه دعاهم إِلى الأماني والغرور.
قوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} أي: ما كان تسليطنا إِيَّاه إِلاَّ لِنَعْلَم المؤمنين من الشاكِّين. وقرأ الزهري: {إِلاَّ لِيُعْلَمَ} بياء مرفوعة على ما لمُ يسمَّ فاعله. وقرأ ابن يعمر: {لِيَعْلَمَ} بفتح الياء.
وفي المراد بعِلْمه هاهنا ثلاثة أقوال قد شرحناها في أول [العنكبوت: 3].
{وربُّكَ على كل شيء} من الشكِّ والإِيمان {حفيظ}، وقال ابن قتيبة: والحفيظ بمعنى الحافظ. قال الخطّابي: وهو فَعِيل بمعنى فاعل، كالقدير، والعليم، فهو يحفظ السماوات والأرض بما فيها لتبقى مدَّة بقائها، ويحفظ عباده من المَهالك، ويحفظ عليهم أعمالهم، ويعلم نيَّاتِهم، ويحفظ أولياءه عن مواقعة الذُّنوب، ويحرسُهم من مكايد الشيطان.


قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الذين زعمتم} المعنى: قل للكفار: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهةٌ ليُنْعِموا عليكم بنِعْمة، أو يكشفوا عنكم بليَّة. ثم أخبر عنهم فقال: {لا يَمْلِكون مثقال ذرَّة في السَّموات ولا في الأرض} أي: من خير وشرّ ونفع وضُرّ {وما لهم فيهما من شِرْكٍ} لم يشاركونا في شيء من خلقهما، {وماله} أي: وما لله {منهم} أي: من الآلهة {من ظَهير} أي: من مُعِين على شيء.
{ولا تَنْفَعُ الشَّفاعةُ عنه إِلاَّ لِمَن أَذِنَ له} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: {أُذِنَ له} بفتح الألف. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: {أُذِنَ له} برفع الألف وعن عاصم كالقراءتين. أي: لا تنفع شفاعة مَلَك ولا نبيّ حتى يُؤْذَن له في الشفاعة، وقيل: حتى يؤذَن له فيمن يشفع. وفي هذا ردّ عليهم حين قالوا: إِن هذه الآلهة تشفع لنا.
{حتّى إِذا فُزِّعَ عن قُلوبهم} قرأ الأكثرون: {فُزِّعَ} بضم الفاء وكسر الزاي. قال ابن قتيبة: خُفِّفَ عنها الفَزَع. وقال الزجاج: معناه: كُشِف الفَزَع عن قلوبهم. وقرأ ابن عامر، ويعقوب، وأبان: {فَزَعَ} بفتح الفاء والزاي، والفعل لله عز وجل. وقرأ الحسن، وقتادة، وابن يعمر: {فرغ} بالراء غير معجمة، وبالغين معجمة، وهو بمعنى الأول، لأنها فرغت من الفزع. وقال غيره: بل فرغت من الشك والشِّرك.
وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة. وقد دلَّ الكلام على أنهم يفزعون لأمر يطرأ عليهم من أمر الله، ولم يذكره في الآية، لأن إِخراج الفزع يدل على حصوله. وفي سبب فَزَعهم قولان:
أحدهما: أنهم يفزعون لسماع كلام الله تعالى. روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذا تكلَّم اللّهُ بالوحي سمع أهلُ السماء صلصلةً كجرِّ السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيَهم جبريل، فاذا جاءهم جبريل فزِّع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل: ماذا قال ربُّك؟ قال: فيقول: الحق، فينادون: الحقّ الحقّ» وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذا قضى اللّهُ عزَّ وجل الأمرَ في السماء ضَربت الملائكةُ بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فاذا فزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربُّكم، قالوا: للذي قال الحقَّ {وهو العلي الكبير}». والثاني: أنهم يفزعون من قيام الساعة. وفي السبب الذي ظنُّوه بدنوِّ الساعة ففزعوا، قولان:
أحدهما: أنه لمَّا كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، ثم بعث اللّهُ محمداً، أنزَل اللّهُ جبريل بالوحي، فلمَّا نزل ظنَّت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة، فصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمرُّ بكل سماءٍ ويكشف عنهم الفَزَع ويُخبرهم أنه الوحي، قاله قتادة، ومقاتل، وابن السائب.
وقيل: لمَّا علموا بالإِيحاء إِلى محمد صلى الله عليه وسلم، فزعوا، لِعِلمهم أنَّ ظُهوره من أشراط الساعة.
والثاني: أن الملائكة المعقِّبات الذين يختلفون إِلى أهل الأرض ويكتبون أعمالهم إِذا أرسلهم الله تعالى فانحدروا، يُسْمَع لهم صوتٌ شديد، فيحْسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرُّون سُجَّداً، ويُصْعَقون حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا كلَّما مرُّوا عليهم، رواه الضحاك عن ابن مسعود.
والقول الثاني: أن الذي أُشير إِليهم المشركون؛ ثم في معنى الكلام قولان:
أحدهما: أن المعنى: حتى إِذا كُشف الفزع عن قلوب المشركين عند الموت إِقامةً للحجة عليهم قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربُّكم في الدنيا؟ قالوا: الحقّ، فأقرُّوا حين لم ينفعهم الإِقرار، قاله الحسن، وابن زيد.
والثاني: حتى إِذا كُشف الغِطاء عن قلوبهم يوم القيامة، قيل لهم: ماذا قال ربُّكم؟ قاله مجاهد.

1 | 2 | 3 | 4 | 5